Critical Discourse Analysis of the Novel ‘Utopia’ by Ahmed Khaled Tawfik in Light of Teun van Dijk’s Theory
Subject Areas : Literary criticism
jaber emamzadeh
1
*
,
ابو الحسن امین مقدسی
2
1 - Department of Arabic Language and Literature, Faculty of Literature and Humanities, University of Tehran, Tehran, Iran
2 - Department of Arabic Language and Literature, Faculty of Literature and Humanities, University of Tehran, Tehran, Iran
Keywords: Utopia, Ahmed Khaled Tawfiq, Critical Discourse Analysis, Teun van Dijk, Power, Ideology,
Abstract :
This research analyzes Ahmed Khaled Tawfik’s novel “Utopia” using Teun van Dijk’s critical discourse analysis framework. It examines how discourse constructs imbalanced power relations and entrenches the class divide between “Utopia’s” wealthy inhabitants and the deprived “Others.” The methodology analyzes macro/micro discursive structures, self/other representation strategies, and implicit ideologies.
The analysis focuses on key scenes, including contrasting world descriptions, character portrayals, and the “hunting” scene as an embodiment of violence. Applying Van Dijk’s ideological square model reveals the author’s use of ideological strategies and representation of social inequality. Notably, both Utopians and Others participate in constructing this ideological square, each promoting a positive self-image while denigrating the other, reinforcing class schism.
The study concludes that language in “Utopia” is not neutral but a tool for symbolic domination, dehumanizing the “Other” and legitimizing violence in its dystopian world. Through inter-class discourse, the author reveals symbolic violence in contemporary societies, making language a mirror of class and political injustice.
أعرضي، رشيد، (2025). تحليل الخطاب الشعري قراءة اتساقية لقصيدة أبي العباس الجراوي (609هـ) في وصف معركة الأرك، الأردن: مركز الكتاب الأكاديمي.
بن غالي، ناصر بن عبدالله، (2024). نحو لسانيات عربية اجتماعية من النظرية إلى التطبيق، الرياض: مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية.
توفيق، احمد خالد، (2014). يوتوبيا. ط1. القاهرة: دار الشروق.
الزناتي، سمر خلف الله، (2024). ترامب وبايدن؛ تحليل الخطاب الصحفي، مصر:دار العربي للنشر والتوزيع.
سامح، شريف، (2017). الشعارات السياسية: دراسة نظرية وتطبيقية. مصر: العربي للنشر والتوزيع.
الساوي، عبدالحفيظ، (2013). الخطاب السياسي للرئيس محمد مرسي: دراسة تحليلية. إسطنبول: دار أصالة للنشر.
الشويرخ، صالح بن ناصر، (2023). منهجيات البحث في اللسانيات التطبيقية. الرياض: مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية.
الشويرخ، صالح ناصر، (2025). قضايا معاصرة في اللسانيات التطبيقية. الرياض: مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية.
العربي، ربيعة، (2019). الخطاب: المحددات واليات الأشغال. الأردن: دار أمجد للنشر والتوزيع.
العلي، بلال موسى، (2022). لعبة الحقل الرقمي: صراعات السلطة والهيمنة والتمايز في حقل التواصل الاجتماعي: توسيع إطار النظرية البورديوية. الإمارات العربية المتحده: Austin Macauley Publishers.
فان دايك، تئون، (2023). الأيديولوجيا والخطاب: مقدمة متعددة التخصصات. ترجمة: سعيد بكار؛ لحسن بوتكلاي. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
محمد، سالي عاطف فتح الله، (2023). إعلام الحرب بين الحقيقة والتضليل: حرب اكتوبر. مصر: دار العربي للنشر والتوزيع.
Jawad, F. A.-M. (2023). A Proposed Objective Version of the Ideological Square Theory in Critical Discourse Analysis. مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، 15(61), 1059-1074.
تحليل الخطاب النقدي لرواية "يوتوبيا" لأحمد خالد توفيق في ضوء نظرية تيون فان دايك
جابر امام زاده (الكاتب المسؤول)
حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة طهران، طهران، إيران
jaber.emamzadeh@ut.ac.ir
أبوالحسن أمين مقدسي
أستاذ في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة طهران، طهران، إيران
تاريخ الاستلام: 19/12/1446ق تاريخ القبول: 20/01/1447ق
الملخص
يتناول هذا البحث تحليل رواية يوتوبيا للكاتب أحمد خالد توفيق من منظور التحليل النقدي للخطاب، بالاعتماد على الإطار النظري الذي طوره تيون فان دايك، ويسعى إلى تبيان كيفية استخدام الخطاب لبناء علاقات قوة غير متوازنة وترسيخ الفجوة الطبقية بين سكان يوتوبيا (الطبقة الثرية) والآخرين (الطبقة المحرومة). تعتمد المنهجية المتبعة على تحليل البنى الخطابية الكلية والجزئية، ودراسة استراتيجيات تمثيل الذات والآخر، وتحديد الأيديولوجيات المضمرة في السرد. يتركز التحليل على المشاهد الرئيسية في الرواية، مثل الأوصاف المتناقضة للعالمين، وصورة شخصيات الطرفين، ومشهد "الصيد" كتجسيد للعنف الموجه ضد الآخر. وقد كشف تطبيق نموذج المربع الأيديولوجي لفان دايك في تحليل النص عن استخدام الكاتب لاستراتيجيات أيديولوجية، وتمثيله للامساواة الاجتماعية في البنية السردية. والجدير بالذكر في يوتوبيا أن كلا الطرفين (سكان يوتوبيا والآخرون) يشاركون في بناء هذا المربع الأيديولوجي، حيث يسعى كل منهما إلى تقديم صورة إيجابية عن ذاته وتشويه صورة الآخر؛ وهو ما يعكس تبادلاً للصور النمطية وترسيخاً مزدوجاً للشقاق الطبقي. يخلص البحث إلى أن اللغة في يوتوبيا ليست محايدة، بل تُستخدم كأداة للهيمنة الرمزية، إذ تساهم في نزع الإنسانية عن "الآخر" وإضفاء الشرعية على ممارسات العنف في عالمها الديستوبي. ويكشف الكاتب من خلال الخطاب بين الطبقات عن بنى العنف الرمزي في المجتمعات المعاصرة، ويجعل من اللغة مرآة تعكس الظلم الطبقي والسياسي.
الكلمات الدليلية: يوتوبيا، أحمد خالد توفيق، التحليل النقدي للخطاب، تيون فان دايك، السلطة، الأيديولوجيا.
مقدمة
تعد رواية يوتوبيا للكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق(2018-1962م)، علامة بارزة في أدب الديستوبيا العربي المعاصر، وقد حظيت باهتمام نقدي وجماهيري واسع نظرا لتصويرها الجريء والمقلق لمستقبل ممكن. تقدم الرواية صورة قاتمة لمجتمع منقسم إلى طبقتين منفصلتين تماما: يوتوبيا، المدينة الفاحشة الثراء والمعزولة خلف أسوار وحراسات مشددة، والتي يعيش سكانها حياة مترفة وفارغة تصل إلى حد الملل القاتل والبحث عن أي شكل من أشكال الإثارة حتى لو كانت وحشية؛ وفي المقابل، "العالم الخارجي" أو "الأغيار"، حيث يعيش المهمشون في فقر مدقع وظروف لا إنسانية، محرومين من أبسط مقومات الحياة. تستكشف الرواية بعمق إشكاليات محورية تتمثل في التفاوت الطبقي الصارخ، والعزلة الاجتماعية والنفسية، والآثار المدمرة لتجريد الإنسان من إنسانيته، سواء كان ذلك تجريدا للآخر المضطهد أو تآكلا لإنسانية الفئة المهيمنة ذاتها.
في ظل هذا العالم المتشظي، يبرز دور اللغة والخطاب كأداة فعالة في تشكيل التصورات وترسيخ الهيمنة. ومن هنا، ينطلق التساؤل الرئيسي لهذا البحث: كيف يسهم الخطاب في رواية يوتوبيا في بناء علاقات القوة غير المتكافئة والأيديولوجيات المهيمنة، وفي تعزيزها وإضفاء الشرعية عليها؟
تسعى هذه الدراسة إلى الإجابة على هذا التساؤل المحوري من خلال تطبيق أدوات التحليل النقدي للخطاب، وبالأخص الإطار النظري الذي قدمه تيون فان دايك. يهدف هذا البحث إلى كشف الآليات اللغوية والسردية التي من خلالها يتم تشكيل الواقع الاجتماعي، وتبرير الهيمنة، وتطبيع الظلم في عالم الرواية. سنركز على كيفية توظيف استراتيجيات تمثيل "الذات" الإيجابية (سكان يوتوبيا) و"الآخر" السلبية (الأغيار)، وتحليل البنى الأيديولوجية العميقة التي تغذي هذا الاستقطاب الحاد وتحافظ على استمراريته، مما يجعل من الخطاب أداة رئيسية للسيطرة الاجتماعية وإنتاج اللامساواة في هذا العالم الديستوبي.
الدراسات السابقة
تعد نظريات تيون فان دايك، وخاصة نموذجه للمربع الأيديولوجي وتحليله لكيفية بناء "الذات" و"الآخر" في الخطاب، من الأدوات المنهجية الأساسية في التحليل النقدي للخطاب. وقد طبقت هذه النظريات على نطاق واسع في تحليل أنواع مختلفة من الخطابات، بما في ذلك الخطاب السياسي، والإعلامي، والاجتماعي، لكشف علاقات القوة الكامنة وآليات الهيمنة الأيديولوجية. على سبيل المثال، استخدمت دراسات عديدة مثل دراسة فان دايك نفسه حول الخطاب العنصري في الصحافة "Discourse and Racism in Spain and Latin America" إطاره النظري لتحليل كيفية مساهمة اللغة في إنتاج التمييز وإعادة إنتاجه، وتبرير اللامساواة الاجتماعية. كما تم تطبيق منهجه على نصوص أدبية لكشف الأبعاد الأيديولوجية المضمنة فيها.
أما رواية يوتوبيا لأحمد خالد توفيق فقد حظيت باهتمام من قبل الباحثين، وإن كانت الدراسات التي تناولتها بالتحليل الخطابي النقدي، وتحديدا من منظور تيون فان دايك، لا تزال محدودة. من بين الدراسات التي تناولت الرواية من زاوية مختلفة، نجد مقالا بعنوان «أدب الخيال العلمي الاجتماعي في رواية يوتوبيا لأحمد خالد توفيق» (2023م) للباحثين فرهنگ مفاخري وعبد الله حسيني، والتي نشرت في مجلة الجمعية الإيرانية للغة العربية وآدابها. يقدم البحث تحليلا استشرافيا لرواية يوتوبيا بناء على المنهج الوصفي التحليلي وبالاعتماد على آراء المتخصصين في مجال أدب الخيال العلمي الاجتماعي، حيث تظهر سمات هذا الفرع الأدبي بوضوح في الرواية. وخلصت الدراسة إلى أن الكاتب قد خلق ثنائية من المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) والمدينة الفاسدة (الديستوبيا) وعمل على تطويرها عبر الرواية ليكشف من خلالها عن الجروح الاجتماعية.
و تناولت دراسة محمود محمد السعيد أبو زهرة (2020م) بعنوان «ملامح الديستوبيا في رواية يوتوبيا للكاتب أحمد خالد توفيق» تحليل الرواية من منظور الديستوبيا، مركزة على الخراب النفسي والمادي في المجتمع المصري كما يصوره الكاتب. وقد استعرضت الدراسة مستويات الديستوبيا في الرواية، مثل الخراب النفسي والتحول في العلاقات الأسرية، والخراب المادي مثل الفقر وانتشار المخدرات والقتل.
كما تناولت دراسة منتصر نبيه محمد صديق (2021م) بعنوان «رؤية الواقع وأثرها على بناء الشخصية في رواية يوتوبيا لأحمد خالد توفيق» تأثير رؤية الكاتب للواقع على تشكيل الشخصيات الروائية، محللة الثنائيات الضدية المرتبطة بالشخصية داخل الرواية. وقد استعرضت الدراسة الأساليب التي اعتمدها الكاتب في بناء شخصياته، مثل الوصف الاجتماعي والنفسي والمادي.
وفي دراسة ناهد عصام محمد (2023م) بعنوان «الإطار الزماني\المكاني في رواية يوتوبيا» تم تحليل الإطار الزماني والمكاني للرواية باستخدام مفاهيم ميخائيل باختين ويوري لوتمان، مظهرة كيف يسهم الفضاء الزمني والمكاني في تشكيل المعنى الاجتماعي والسياسي للرواية.
على الرغم من الدراسات المتعددة التي تناولت رواية يوتوبيا من زوايا مختلفة، إلا أن تطبيق نظرية تيون فان دايك في تحليل الخطاب النقدي لهذه الرواية يعد أمرا جديدا ومهما. فمن خلال استخدام "المربع الأيديولوجي" لفان دايك، يمكن الكشف عن كيفية تمثيل الخطاب الروائي للسلطة والهيمنة، وكيفية تشكيل الهوية الجماعية والفردية في سياق اجتماعي متدهور. هذا التحليل يسهم في فهم أعمق للبنية الأيديولوجية للرواية ويقدم إضافة نوعية في مجال الدراسات الأدبية والنقدية.
الإطار النظري
المبادئ العامة للتحليل النقدي للخطاب (CDA)
التركيز على القضايا الاجتماعية: التحليل النقدي للخطاب لا ينطلق من اللغة لذاتها، بل من المشكلات الاجتماعية الملموسة كالظلم واللامساواة. يرى أن الحياة الاجتماعية شبكة من الممارسات المترابطة (كالتعليم أو الإعلام)، والخطاب جزء أساسي منها. يظهر الخطاب كجزء من النشاط الاجتماعي، وفي تمثيل الفاعلين للممارسات، وفي تشكيل الهويات (كهوية القائد السياسي). (بن غالي، 2024م: 245)
العلاقة بالسلطة: يهتم التحليل بكيفية ممارسة السلطة، خاصة إساءة استخدامها، وآليات الهيمنة التي تفرضها جماعة على أخرى. مهمته الأساسية هي كشف كيف يساء استخدام السلطة أو تعاد إنتاجها وتشرعن عبر الخطاب من قبل الجماعات المهيمنة. تعرف السلطة الاجتماعية بأنها سيطرة فئة على أفعال أو عقول فئة أخرى، مما يحد من حريتها أو يؤثر في معارفها. أما الهيمنة فهي ممارسة غير شرعية لهذه السلطة لمصالح خاصة، وغالبا ما تؤدي للامساواة الاجتماعية. (الزناتي، 2024م: 36)
اللامساواة: تعد اللامساواة محورا رئيسيا، حيث يسعى التحليل النقدي للخطاب لفهم كيفية بنائها وإعادة إنتاجها خطابيا. نظرا لأن خطابات كثيرة تمارس التمييز والهيمنة ضد فئات معينة، رأى الدارسون أن تغيير الخطاب قد يساهم في تغيير المجتمع. ولذلك، يهدف التحليل إلى إنتاج خطابات تضعف من هذه اللامساواة أو على الأقل تخلو منها، مما دفع للاهتمام بما يسمى "بلاغة الجمهور". (سامح، 2017م: 115)
الهدف الكشفي: الهدف من التحليل النقدي للخطاب ليس مجرد الوصف، بل هو "كشف" علاقات القوة غير المتكافئة وآليات السلطة والهيمنة المخفية أو المبررة في الخطاب. إن كشف آليات اشتغال العنف الرمزي، المتجذر في علاقات القوة، يكشف أوهام المجتمع وممارساته التي تبدو طبيعية. ومع ذلك، يرى البعض أن هذا التركيز على آليات الهيمنة والتعسف، كما في أعمال بورديو، قد يوحي بحتمية الوضع ويغلق الباب أمام إمكانيات التغيير. (العلي، 2022م: 103)
الأداة: تحليل اللغة والخطاب: الوسيلة لتحقيق هذا الهدف الكشفي هي التحليل الدقيق "للغة والخطاب". يدرس التحليل النقدي كيف أن استعمال اللغة يعيد إنتاج رؤى وقيم وطرق أصحاب القوة والنفوذ، والتي قد لا ينتبه إليها الأقل نفوذا. يركز على العلاقة بين اللغة، والقوة/النفوذ، والأيديولوجيا (وهي تمثيل لجوانب من الحياة تسهم في تأسيس علاقات السيطرة واللامساواة). ويسعى التحليل، باستخدام أدوات لغوية، إلى إلقاء الضوء على كيف يسهم استعمال اللغة في السيطرة على جماعات اجتماعية معينة وفي سوء تمثيلها، ولا يقتصر ذلك على الممارسات السياسية بل يمتد للممارسات التعليمية وغيرها. (الشويرخ، 2023م: 440)
مثلث فان دايك: الخطاب-الإدراك-المجتمع
يقدم فان دايك نموذجا يوضح العلاقات المتداخلة بين الأيديولوجيا، والمجتمع، والإدراك (العمليات المعرفية كالذاكرة)، والخطاب. فالتفاعل الاجتماعي ضمن الهياكل المجتمعية يتجلى كخطاب يدرك عبر هذا النظام المعرفي. ولهذا، يهتم التحليل الثقافي للخطاب بـ"العقد الخطابية"، وهي النصوص المركزية الحاكمة والمؤثرة، بغض النظر عن عدد النصوص المحللة. (محمد، 2023م: 112)
يعتبر فان دايك، وفقا لهذا الطرح، الباحث الذي سعى لدمج النظريات الإدراكية باللغويات والنظريات الاجتماعية. تقترح نظريته، المعروفة بـ"النظرية الاجتماعية/الإدراكية لدراسات الخطاب النقدي"، نموذجا ثلاثي المستويات يربط بين الخطاب والإدراك والمجتمع. يوظف في هذا النموذج "الأطر الإدراكية" كطبقة وسطى تتوسط بين البنى اللغوية للخطاب (كالاختيارات الدلالية والاستراتيجيات البلاغية) في المستوى الأدنى، والبنى المجتمعية (كالعرق والجنس) في المستوى الأعلى، مع العلم أن هذه المستويات هي مجازات تحليلية في نظره. وبالتالي، فإن التحليل النقدي للخطاب هو تحليل إدراكي واجتماعي وسياسي في آن واحد، ويعد هذا الترابط بين الخطاب والتفاعل من جهة، والبنى الاجتماعية من جهة أخرى، إحدى أبرز خصائصه. وقد ركزت نسبة كبيرة من أبحاث فان دايك على قضايا التنميط (أي إعادة إنتاج التحيز العرقي)، وإساءة استخدام السلطة من قبل النخب، والمقاومة التي تبديها المجموعات المهيمن عليها. (الشويرخ، 2023م: 445)
يرى فان دايك أن الخطاب هو حدث تواصلي يظهر تنوعات المعنى، ويشدد على أهمية لسانيات النص واللسانيات الإدراكية ضمن ما يسميه "المذهب الاجتماعي الإدراكي". يستكشف هذا المذهب العلاقة بين الظواهر الإدراكية وبنى الخطاب والبنى الاجتماعية، ليشكل بذلك نموذجه الثلاثي الشهير: الخطاب-الإدراك-المجتمع. ومن القضايا الأساسية لديه أن العلاقة بين الخطاب وسياقه جوهرية في التحليل النقدي للخطاب. يفضل فان دايك استخدام مصطلح "دراسات الخطاب النقدي" (CDS) بدلا من تحليل الخطاب النقدي (CDA)، حيث يرى أن (CDS) تجمع بين طرق وأفكار متعددة من علم النفس، واللسانيات النقدية، والعلوم الاجتماعية والإنسانية، فهي ليست مجرد طريقة تحليلية واحدة. ومن المهم الإشارة إلى أن هذا المذهب لا يقتصر على الجوانب الاجتماعية والإدراكية فحسب، بل يسعى أيضا لتقصي التمثيل الذهني لمستخدمي الخطاب، وعمليات إنتاج الخطاب واستيعابه، بالإضافة إلى الأيديولوجيات السائدة في المجتمع. لاحقا، ركز فان دايك بشكل متزايد على كيفية إعادة إنتاج اللامساواة الاجتماعية وإساءة استخدام السلطة والنفوذ، وبصفة خاصة على إعادة إنتاج "العرقية" من قبل من أسماهم "النخب الرمزية" (كالسياسيين والإعلاميين والعلماء والكتاب)، وذلك في وسائل الإعلام المطبوعة، ساعيا بذلك إلى ردم الفجوة بين المجتمع والخطاب. (الشويرخ، 2025م: 218)
مفاهيم فان دايك الأساسية
السلطة (Power): يعرف فان دايك السلطة بأنها ليست مجرد أداة للقمع، بل هي سيطرة على أفعال وعقول جماعة أخرى، ويتم ذلك بشكل خاص عبر التحكم في الخطاب العام. يوضح أن الأيديولوجيات غالبا ما تشكل لإضفاء الشرعية على سيطرة طبقة حاكمة أو نخب. فإذا كانت السلطة تعني قدرة مجموعة على التحكم في أفعال مجموعة أخرى، فإن وظيفة الأيديولوجيات في هذا التحكم هي تمثيل جانبه الذهني؛ أي أنها توفر المبادئ التي تبرر ممارسات المجموعة المسيطرة (كالتمييز)، وتسوغ استغلال السلطة، وتضفي عليه الشرعية، وتسهل قبوله من المجموعة المسيطر عليها. بعبارة أخرى، الأيديولوجيات هي وسيلة وغاية لممارسات المجموعة، وهدفها إعادة إنتاج المجموعة وسلطتها (أو تحدي سلطة مجموعات أخرى). ويستخدم مصطلح "الأيديولوجيات المسيطرة" للإشارة إلى تلك التي توظفها المجموعات المهيمنة لإعادة إنتاج سيطرتها أو إضفاء الشرعية عليها. (فان دايك، 2023م: 37)
الأيديولوجيا (Ideology): هي الأنظمة الأساسية للمعتقدات الاجتماعية التي تنظم كيفية فهم الجماعات للعالم الاجتماعي (الإدراك الاجتماعي)، وتستخدم لتبرير الأفعال والعلاقات الاجتماعية، وخاصة العلاقات غير المتكافئة. يرى فان دايك أن إحدى الوظائف الأساسية للأيديولوجيا هي ضمان شرعية السلطة وتحقيق الهيمنة لأفكارها الحاكمة عبر إقناع المتلقين بها. لذلك، يهتم الباحث في التحليل النقدي للخطاب بكيفية تأثير هذه الأيديولوجيا أو دعم توجهاتها من خلال دراسة نصوص الخطاب، بهدف فهم علاقات السلطة بين الأطراف (المرسل والمستقبل)، وكذلك فهم الأهداف السياسية التي يسعى المخاطب لتحقيقها عبر استخدام الخطاب. (الساوي، 2013م: 239)
تمثيل الذات والآخر (Self and Other Representation): يشير هذا المفهوم إلى الاستراتيجيات الخطابية المستخدمة لتقديم صورة إيجابية عن "نحن" (الجماعة الداخلية/In-group) وصورة سلبية عن "هم" (الجماعة الخارجية/Out-group). هناك استراتيجيات دلالية (معنوية) قليلة تسود في النقاشات حول الآخرين، إلى جانب التعبير عن تصورات مستقطبة وتقسيم الناس إلى "نحن" و"هم". هذا يوحي بأن التصورات الاجتماعية الكامنة عن الجماعات (مثل المواقف والأيديولوجيات) هي التي تتحكم في الحديث والنصوص المتعلقة بالمهاجرين أو اللاجئين، وليس بالضرورة نماذج لأحداث فردية (إلا إذا استخدمت كأمثلة توضيحية). يمكن أن ينطبق هذا الاستقطاب أيضا على تصنيفات فرعية للجماعات الخارجية، مثل تقسيمهم إلى "جيدين" و"سيئين" أو "أصدقاء" و"أعداء". يمتاز الحديث داخل الجماعة الواحدة، سواء كان مصحوبا بانتقاص للجماعات الخارجية أم لا، باستراتيجية عامة أخرى، وهي "تفضيل الجماعة الداخلية" أو "التقديم الإيجابي للذات". يتخذ ذلك شكلا فرديا أو جماعيا، حيث يؤكد المتكلم على الخصائص الإيجابية لمجموعته (كحزبه أو بلده). يتجلى هذا التقديم الإيجابي للذات في سياق النقاشات حول الهجرة، على سبيل المثال، من خلال تأكيد التسامح، أو الضيافة، أو عدم التحيز، أو التعاطف، أو دعم حقوق الإنسان. ويعد التقديم الإيجابي للذات ذا طبيعة أيديولوجية في الأساس، لأنه مبني على الصورة الذاتية الإيجابية التي تحدد أيديولوجيا المجموعة. (فان دايك، 2023م: 112)
المربع الأيديولوجي
يعتبر المربع الأيديولوجي (Ideological Square)الذي قدمه تيون فان دايك أحد النماذج التحليلية المؤثرة والمستخدمة على نطاق واسع في التحليل النقدي للخطاب. يركز هذا النموذج بشكل خاص على تحليل كيفية التمثيل الأيديولوجي لمجموعة "نحن" المجموعة الداخلية مقابل مجموعة "هم" المجموعة الخارجية في الخطاب. يقوم النموذج على استراتيجية كلية تعرف بـ "الاستقطاب" (Polarization)والتي تتضمن أربع حركات أساسية:
التأكيد على الجوانب الإيجابية لـ "نحن" (Emphasize our good sides)
التأكيد على الجوانب السلبية لـ "هم"( (Emphasize their bad sides
التقليل من أهمية الجوانب السلبية لـ "نحن" (De-emphasize our bad sides)
التقليل من أهمية الجوانب الإيجابية لـ "هم" (De-emphasize their good sides)
يهدف استخدام هذه الاستراتيجيات الخطابية إلى بناء صورة إيجابية للمجموعة الداخلية، وفي الوقت نفسه، خلق أو تعزيز صورة سلبية للمجموعة الخارجية. وهذا بدوره يساهم في تبرير الأفعال، والحفاظ على التماسك الجماعي، وإعادة إنتاج الأيديولوجيات السائدة وعلاقات القوة غير المتكافئة. (Jawad, 2023, p. 1064)
بنى الخطاب
البنى الكبرى (Macrostructures): وهي الموضوعات والمواضيع العامة. يرى فان دايك أن «الأبنية الكبرى للنصوص دلالية؛ فهي تصور الترابط ومعنى النص الذي يستقر على مستوى أعلى من مستوى القضايا الفردية، وبذلك يمكن أن يشكل تتابعا كليا أو جزئيا لعدد من القضايا ذات وحدة دلالية على مستوى أكثر عمومية» ويقصد بها فان دايك المعنى الإجمالي للنص / الخطاب؛ يقول: «المفهوم النظري الذي سنستعمله لوصف هذا المعنى الإجمالي، أي موضوع أو تيمة النص، ما هو إلا مفهوم البنية الكبرى “الدلالية”، كما هو الشأن بالنسبة لأي بنية دلالية، فإن البنية الكبرى تتركب أيضا من قضايا تهتم بنفس الوقائع في مستوى عال أو أكثر تجريدا أو أكثر عمومية أو أكثر إجمالا.» (أعرضي، 2025م: 361)
البنى الصغرى (Microstructures): يكمن جوهر التأويل في تفكيك الخطاب إلى قضايا جزئية وترتيبها ترتيبا سلميا، وذلك قصد بناء دلالة القضايا المشكلة له، ومن ثمة تخطي هذا المستوى لإقامة البنية العامة للمحتوى. في هذا الإطار يدرج فان دايك مفهوم البنية الصغرى أوما يسمى ب "أساس النص" ويتحدد في كونه عبارة عن لائحة من القضايا المبنينة التي تمثل المعنى المحلي للنص، حيث تنتظم كل قضية في محمول وعدد من الموضوعات. (العربي، 2019م: 59)
تحليل الخطاب في رواية يوتوبيا باستخدام نظرية فان دايك
مثلث فان دايك: الخطاب – المعرفة – المجتمع
تقوم نظرية فان دايك على مثلث ثلاثي الأبعاد يتكون من: الخطاب، والمعرفة، والمجتمع. وفي رواية يوتوبيا، يتجلى هذا المثلث بشكل صارخ من خلال البنية الخطابية التي تعكس تمثيلات السلطة والتمييز الطبقي والاحتقار الاجتماعي بين طبقتين رئيسيتين: اليوتوبيين الذين يمثلون الصفوة الثرية، والأغيار الذين يمثلون الفقراء والمنسيين.
الخطاب: يتجلى الخطاب في بنية النص الروائي التي يقدم فيها السارد رؤيته الذاتية المتعالية على الآخر. يعبر السارد (الذي ينتمي إلى يوتوبيا) بلغة نرجسية وفوقية عن الواقع من منظوره، مما يرسخ خطابا إقصائيا قوامه التمركز حول الذات، وتشييء الآخر، وتحويله إلى مجرد أداة للمتعة أو العنف أو التجربة العابرة. فمثلا، حين يتحدث عن الأغيار يقول: «ما أقبح منظره!.. كل عالمه تلخص في هذه الشطيرة التي في يدي، ولم يعد يعرف أي شيء عما يدور حوله» (توفيق، 2014م؛ 22)، مما يعكس تحقيرا واضحا وتجريدا للآخر من كينونته الإنسانية.
ويتكرر الخطاب النرجسي عند وصفه ليومياته في يوتوبيا، حيث يقول: «أصحو.. أضاجع الخادمة.. أقيء.. أضحك.. أرقص.. ألبس.. أدس إصبعي.. أرى النيران الخضر..» (ص: 12و116)، وهو وصف ينزع عن ذاته أي عمق إنساني، ويحول الوجود إلى استعراض حسي عدمي، مقابل تحويل الآخر إلى موضوع للمراقبة أو الصيد أو الازدراء.
المعرفة: يظهر النص أن المعرفة متحيزة وفقا للانتماء الطبقي. اليوتوبيون لا يعرفون عن الأغيار سوى ما يرغبون في تصديقه عنهم: أنهم وحوش، قذرون، بلا عقل ولا أخلاق. يتجلى ذلك في قول السارد: «بشكل ما، يستحق الفقراء كل ما هم فيه.. إنهم أقل ذكاء من آبائنا.. إنهم ضعيفو الإرادة خاملو الحركة.» (ص: 119) هذه المعرفة ليست مستندة إلى احتكاك حقيقي، بل إلى خطاب مكرر داخلي يغذي الانفصال. بالمقابل، الأغيار – ممثلين في شخصية جابر – يمتلكون معرفة واقعية بالواقع المتشظي خارج الأسوار. جابر يعلم خبايا الأرض، ويعي حقائق الحياة القاسية، ويستطيع فضح زيف رفاهية يوتوبيا، كما نقرأ في قوله: «لكني بالفعل لا أريد دما.. لا أريد قتلى..هذه هي النقطة التي تحدد كل شيء.. الدليل الوحيد الذي يخبرني أنني ما زلت آدميا ولم أتحول إلى ضبع، أنني في هذا أتفوق عليهما..» (ص: 78)، مما يكشف وعيا أخلاقيا مضادا.
المجتمع: المجتمع في يوتوبيا مجتمع منقسم على نحو قطبي متطرف؛ الجدار الفاصل بين الطرفين لا يمثل فقط حدودا فيزيائية، بل هو حاجز أيديولوجي معرفي ثقافي يرسخ عبر خطاب يتكرر داخل الرواية بأشكال متعددة: إعلام، تعليم، دين، سرد شخصي، وأساطير حياة الصفوة. من الأمثلة البارزة على هذا الانقسام حديث السارد عن بوابات يوتوبيا والأسلاك المكهربة والدوريات، حيث يقول: «ليس من السهل أن تتسلل لعالم الفقراء بالخارج.. العسر كل العسر أن تستطيع المرور من بوابة الحراسة المحكمة حول يوتوبيا.. إن الفقراء وأبناء الأكابر يبدون متشابهين عندما تراهم في الظلام من طائرة.. طلقات في الظلام.. جثثا هامدة وحادثا مؤسفا.. .» (ص: 19) كذلك، تكشف الرواية عن صورة دينية مشوهة تؤدي دور التبرير الطبقي، كما في وصفه لحج الآباء المتدينين باعتباره وسيلة للتطهر من الدماء التي سفكت لبناء رفاهيتهم: «منطقة دور العبادة التي بها أكثر من مسجد وكنيسة ومعبد يهودي.. أعتقد أن سبب تشبث الكبار بذلك هو خشيتهم من أن يفقدوا كل شيء في لحظة.. أن يضيع التميز.. أن يجدوا أنفسهم في الخارج.. هناك سبب آخر مهم في رأيي، هو ولع الكبار بأن يجمعوا بين طابعي الثراء والورع..الثراء والورع ثنائي محفور كما يبدو في عقول جيل الآباء المصريين منذ دهور.» (ص: 8)
هكذا، تخلق الرواية مجتمعا لا يكتفي بالتمييز الطبقي بل يعيد إنتاجه عبر أنظمة رمزية تشعر الطبقة العليا بأنها الأصل، وأن الآخر ناتج خلل ينبغي محوه أو تهميشه أو استخدامه كمجرد وسيلة لبلوغ المزيد من اللذة أو التسلية.
تطبيق المربع الأيديولوجي على الرواية
التقديم الإيجابي للذات
يقدم سكان يوتوبيا أنفسهم كصفوة متحضرة، عصرية، تملك التكنولوجيا والمال والجمال. يستخدمون لغة تميزية تضعهم في منزلة أعلى من بقية البشر، ويشعرون أنهم يستحقون كل ما ينعمون به، بل وينظرون للآخرين كعالة على هذا التقدم. يقول السارد: «أعرف أنني أستطيع قهر جابر لو هاجمنا.. لن ينتصر الفقر والشحوب وسوء التغذية على الثراء والرياضة منذ الصغر.» (ص: 107)
ويتفاخر كذلك بتفاصيل حياته المترفة: «عاشرت كل فتاة راقت لي، وجربت كل أنواع المخدرات.. كنت قد بدأت تجاربي بالماريجوانا.. إكستازي.. وجربت LSD.. جربت عقاقير كثيرة جدا.. ولكن مشكلة المخدرات هي أنها تفقد إثارتها ما دامت متاحة.. من حقي أن أتعاطى أي شيء بأي كمية وبأي ثمن..» (ص: 5) كما يتفاخر بأسلوبه الجنسي العدواني كدليل على القوة والهيمنة، فيقول: «من الطريف أن تلاحظ كيف يجعل الملل سلوكك الجنسي عدوانيا ساديا.. لو كنت تعرف طريقة أخرى يمارس بها المرء حياته، فلسوف يسعدني أن تقولها..» (ص: 6) هذا التقديم الذاتي الإيجابي يرسخ صورة اليوتوبي كمتحكم في العالم ومصيره، لا تحده قوانين أو أخلاق.
التقديم السلبي للآخر
يصور الراوي اليوتوباوي الأغيار ككائنات دونية، أشبه بالحيوانات، ويختزلون في صفات القذارة، التخلف، العنف، والشهوة البدائية، فيقول في وصفه لصفية(أخت جابر) «ثمة شيء حيواني غريب في تلك اللمسة لم أرها من قبل إلا مع قرد مد يده ذات مرة يتحسس أناملي في وجل وفضول عندما كنت في حديقة حيواننا. هبت جرمينال منتفضة وأبعدت رأسها قليلا.. وثبت(صفية) للخلف مترا بطريقة زادتني اقتناعا بنظرية القرد تلك.. هذه حركات غير بشرية.. هذه حركات تمت بصلة لانعكاسات حيوانية متوارثة ولا دخل للعقل فيها..» (ص: 64)
وفي مشهد آخر يصف العمال قائلا: «لا أحد يعيش هنا من دون عمل.. عمل قذر.. عمل حرام.. عمل غير قانوني..» (ص: 86) أما النساء، فغالبا ما يتم وصفهن بوصف مهين، كما حدث في حديث إحدى النساء عن الاغتصاب، حيث يقدم بشكل ساخر وكأنه من طقوس الحياة اليومية في عالم الأغيار: «يمكن لهذه الفتاة أن تجلب لك الكثير من المال بدلا من أن تكون عبئا عليك. الصنف شحيح والموجود رديء.. أنت ترى وجه سمية البشع الذي يذكرك بالأبالسة.. هذه الفتاة ستكون مكسبا لنا.» (ص: 93)
التخفيف من التقديم السلبي للذات
رغم الفوقية التي تسود الخطاب، تظهر لحظات يعبر فيها السارد عن نوع من الحيرة أو التأمل في قسوة العالم الذي ينتمي إليه. لكنه لا يذهب إلى حد النقد الجذري، بل يبرر القسوة بالملل أو غياب المعنى: «ماذا بوسعك أن تفعل في هذه الجنة الصناعية؟ تنام.. تتعاطى المخدرات.. تأكل حتى يزهق الطعام أنفاسك..» بل ويقول: «ربما كنت ملولا.. هذا ليس ذنبي كذلك» (ص: 6)، ليجعل من الوضع القائم قدرا أكثر منه اختيارا.
التخفيف من التقديم الإيجابي للآخر
تقلل الرواية من قيمة الجوانب الإنسانية لدى الأغيار عبر تقليص مساحة أصواتهم، ما عدا شخصية جابر، الذي يعامل كاستثناء. حتى حينما يظهر ذكاء أو شجاعة، يتم التشكيك ضمنيا في دوافعه، أو يقدم كحالة نادرة بين الأغيار: «إنه أحمق وعليه أن يدفع الثمن.. أنا لن أقوم بكل هذه المغامرة وأعود من دون تذكار... كنت أحكي لهم عن جابر الأحمق.. جابر الساذج الذي لم يستطع أن يفهم قواعد اللعبة..» (ص: 111و113) و رغم أن جابر أنقذهما أكثر من مرة، فإن خطاب الريبة يظل حاضرا: «لم يفعل جابر شيئا طيلة هذا النهار.. لما سألته عما ينوي عمله بنا قال في غموض: انتظرا حتى الوقت المناسب.. لماذا لم تتخلص منا؟» (ص: 67)
وحتى عند الحديث عن الأحياء العشوائية، فإن الرواية تغلب عليها صور الانحطاط والفوضى، ولا تمنح الشخصيات الأخرى مساحة كافية لتقديم ذاتها: «كنا نمشي وسط الجموع ذاهلين.. هناك قفص خشبي عليه أكوام من جلود الدجاج بشعة المنظر.. أكوام من الثياب المتسخة المستعملة تباع بمائة جنيه للقطعة.. نتوغل بين مجموعة من العشش الصفيح، أو المصنوعة من البامبو وبقايا الأخشاب.. الأرض مبتلة تغوص فيها قدماك.. مزيج من الوحل وبقايا الغسيل والمجاري الطافحة.. على أبواب العشش تقف نساء قذرات بشعات المنظر يضحكن لي في إغراء..» (ص: 30) هذا البناء الخطابي يظهر كيف تنتج الرواية – من خلال السارد اليوتوبي – نسقا أيديولوجيا متكاملا يعيد إنتاج التمييز من خلال ثنائية «نحن الأفضل» مقابل» هم الأسوأ»، مع مساحة محدودة جدا للمراجعة النقدية أو الاعتراف بالآخر كند أو إنسان.
المربع الأيديولوجي المضاد (من منظور "الأغيار" – خاصة جابر)
التأكيد على الجوانب الإيجابية لـ "نحن" (الأغيار)
يمثل جابر صوت العقل والكرامة والقدرة على التكيف مع ظروف مهينة، وهو ليس مجرد شخصية روائية بل تجسيد لإمكانية النجاة دون امتلاك أي أداة مادية أو دعم مؤسسي. إنه يفكر ويخطط وينقذ ويقدم الحماية للجميع حتى لو كان مواطنا يوتوباويا: «لا شكر على واجب.. أكره القتل على الجانبين، برغم أنكما جئتما طبعا للفوز بتذكار فريد!» (ص: 59)
وفي موقف آخر، يظهر جابر شجاعة نادرة حين يصر على أن يرافق السارد وجيرمينال في رحلتهم المحفوفة بالمخاطر، قائلا: «أنتما في أمان الآن.. ودا عا.. فقط لا تعودا ولا تحاولا صيد واحد آخر منا.. فلن أكون موجو دا المرة القادمة..» (ص: 110) هذا المشهد يظهر أن الأغيار يمتلكون أخلاقا عملية وشجاعة تتجاوز عدالة الفرصة إلى الحكمة في تدبير النجاة.
التأكيد على الجوانب السلبية لـ "هم" (اليوتوبيين)
يرى جابر أن اليوتوبيين ليسوا فقط منسلخين عن الواقع، بل هم مخلوقات مشوهة أخلاقيا ونفسيا، غير قادرين على الإحساس بغيرهم. في تعليق ساخر على دافع الصيد عندهم يقول: «ينتشر أمثالكم كالضباع بحثا عن فريسة.. بينما العبيد والجواري من عندنا يقفون بانتظار تلبية طلباتكم.. كل شيء متاح وللبيع حتى العبيد أنفسهم» (ص: 107) وهذا يشير إلى أن الصيد عندهم ليس بدافع البقاء، بل بدافع المتعة والتفاخر. كما يسخر من عجزهم رغم ما يملكون فيفضح خواءهم الداخلي وانحرافهم عن الإنسانية: «أنت هنا تأكل من طعامي وتنام تحت سقفي.. نظر لي في تحد. يتمنى أن يمزقني لكنه تحت رحمتي بالكامل لهذا يصمت.. لو كان يملك شيئا واحدا محترما فهو الذكاء. قال لي: معنا بعض المال.. فهل هذا ما تريد؟ قلت في اشمئزاز: لا أريد شي ئا من مالك..» (ص: 107)
التقليل من أهمية الجوانب السلبية لـ "نحن" (الأغيار)
يعترف جابر بوجود عنف وفوضى في مجتمعه، لكنه يعزو ذلك إلى التاريخ الطويل من القهر والتجويع والانفصال عن النظام وحين يعلق على أخطاء أفراد مجتمعه، يربطها دائما بالحرمان: «لاحظ أن ٧٨ ٪ من مرتكبي الاغتصاب عاطلون.. دعك بالطبع من ذوبان الطبقة الوسطى التي تلعب في أي مجتمع دور قضبان الجرافيت في المفاعلات الذرية.. مجتمع بلا طبقة وسطى هو مجتمع مؤهل للانفجار.. لقد نسف ما تبقى من الطبقة الوسطى، وتحول المجتمع إلى قطبين وشعبين.. وبنفس منطق قلاع القرون الوسطى عندما كان الحكام يقيمون الحفلات الماجنة بينما الطاعون يفتك بمحيط الفقر الخارجي.» (ص: 83) في هذا المقطع يسعى الخطاب إلى تبرير السلوكيات السلبية للجماعة الداخلية وتفسيرها في إطار أسباب خارجية أو هيكلية، بدلا من مساءلتها أخلاقيا أو تحميل أفراد الجماعة مسؤولية مباشرة عنها. في هذا السياق، يعترف جابر بوجود عنف وجرائم (٧٨٪ من مرتكبي الاغتصاب عاطلون)، لكنه لا يعرض ذلك بوصفه دليلا على انحراف أخلاقي أصيل في مجتمعه، بل كنتاج حتمي للفقر والبطالة والتجويع. بهذه الطريقة، يتم نفي أو تخفيف المسؤولية الأخلاقية الفردية، وتحويلها إلى نتيجة منطقية لسياسات التهميش الطبقي التي مارستها النخبة اليوتوبية. ويستمر هذا التبرير في الجملة التالية (دعك بالطبع من ذوبان الطبقة الوسطى..) محاولا أن يقول: إن ما يحدث في مجتمع الأغيار من عنف أو انحراف ليس نتيجة خلل داخلي فيهم، بل انهيار للبنية الكلية للنظام. أما المقارنة بين الوضع المعاصر و«قلاع القرون الوسطى»، حيث كان الحكام يحتفلون بينما الفقراء يموتون بالطاعون، فتقدم لتعزيز الخطاب الدفاعي للأغيار. إنها محاولة لإعادة بناء صورة إيجابية نسبية لـ"نحن"، رغم الاعتراف بالسلوكيات السلبية، وذلك بإسناد تلك السلوكيات إلى السياق لا إلى الفاعل.
التقليل من أهمية الجوانب الإيجابية لـ "هم" (اليوتوبيين)
يتجلى مبدأ التقليل من أهمية الجوانب الإيجابية لليوتوبيين بوصفه أحد الأضلاع الأربعة في المربع الأيديولوجي لفان دايك، من خلال استخدام خطاب الأغيار لنزع الشرعية الأخلاقية والاجتماعية عن الطرف المهيمن إذ تقدم صورة اليوتوبيين ككائنات تمارس الكذب بسهولة ودون ضمير، وهو ما يعكس نزعة إلى تجريدهم من أي بعد أخلاقي أو إنساني: «أنا لا أثق بقسمكم لأنكم.. وتكذبون علينا بالسهولة التي يكذب بها المرء على خروف.. لا أريد سماع كلمة عن أبيك وحياة أبيك..» (ص: 103) كما يسعى هذا الخطاب إلى تحطيم الصورة الإيجابية التي يرسمها اليوتوبيون عن أنفسهم، عبر نزع الصفة الأخلاقية، وتحقير الأصل الاجتماعي، ورفض أي محاولة لإضفاء بعد إنساني عليهم: «أنا أعرف أصل وفصل هذا الرجل.. هؤلاء لم يأتوا من السماء.. كلهم جاءوا من أسفل أسفل الطبقات» (ص: 28) فيهدف الخطاب إلى تقويض سردية التفوق التي يتبناها اليوتوبيون، وتفكيك وهم الامتياز الوراثي أو الطبقي و نفي الطابع النخبوي أو القدري المفترض في وجودهم، ومحاولة فضح حقيقة طبقية مدفونة خلف الثروة والسلطة.
فهذه النماذج، توازن بين النقد والتفسير، بين الإدانة والتحليل، ليعطي للأغيار بعدا إنسانيا حقيقيا يتجاوز ما يحاول الراوي اليوتوباوي نفيه أو تجاهله.
تحليل بنى الخطاب
البنى الكبرى
حبكة الرواية ترتكز على رحلة تحول تقود السارد من الاستهلاك العبثي، حيث لا قيمة لأي شيء إلا المتعة والتجربة، إلى المواجهة المباشرة مع الواقع الذي لطالما تم تجاهله. يتحول السارد من متفرج ساخر إلى قاتل، ومن مستخدم للأغيار إلى مطارد ومهدد، وصولا إلى لحظة القتل التي تنهي الرواية، حيث يتجسد أقصى درجات الانحطاط الإنساني.
والبناء السردي ينقسم بوضوح بين رواية من داخل يوتوبيا بصوت السارد الرئيسي، الذي يمثل نخبة منفصلة عن العالم، ومن خارجها من خلال جابر، الذي يقدم رؤية واقعية ومعرفية للأرض، وبالتالي يمنح القارئ منظورا مضادا للخطاب الرسمي. على هذا النحو، فإن بنية الرواية تعكس الثنائية البنيوية التي تؤسس لها: الداخل والخارج، النخبة والهامش، الجدار وما وراءه.
تعد رواية يوتوبيا تمثيلا نموذجيا لصراع طبقي مركزي يشكل الهيكل العام للنص، وهو الصراع بين طبقة مترفة تملك السلطة والثروة (اليوتوبيون) وطبقة مسحوقة ومهمشة (الأغيار). تبنى معظم الأحداث والسرديات في الرواية حول هذا التوتر الجذري الذي لا يعبر عنه فقط من خلال الحبكة أو الشخصيات، بل من خلال البنية الخطابية العامة التي تقسم العالم إلى قطبين متناقضين تماما، يتسم كل منهما بمنظومة قيم ورؤية خاصة للواقع فمنذ الصفحات الأولى، تظهر ملامح هذه البنية عبر جمل تفصل بين "نحن" و"هم"، كما في المثال: «نحن أسرة واحدة.. إلخ... لسنا مثل الأغيار... إلخ» (ص: 9) هنا يتم تقديم "نحن" (اليوتوبيين) بوصفهم جماعة متماسكة، منظمة، ومنفصلة عن "الأغيار"، الذين يحذفون من نطاق هذه الأسرة الإنسانية الواحدة. هذه البنية الافتتاحية تؤسس ثنائية حادة: الداخل (يوتوبيا) مقابل الخارج (العالم المحطم)، وهي ثنائية تتكرس لاحقا كإطار نظري ضمني يوجه كل تمثيل سردي لاحق في الرواية: «إذن فليمت الآخرون.. على الأقل، يمكنك أن تراهم وهم يموتون بدلا من أن يروك هم..» (ص: 16) يعكس هذا تصعيدا في البنية الكبرى، حيث لا يكون الفصل بين الطبقتين مجرد عزل رمزي أو اجتماعي، بل يتحول إلى خطاب تطبيعي للقتل والموت. تقدم رؤية اليوتوبيين للعالم الخارجي بوصفها مشهدا للموت الذي لا يثير فيهم سوى نوع من التسلية الباردة، مما يشير إلى تفكك كامل في منظومة القيم المشتركة، وانفصال حاد عن مبادئ التعاطف أو المسؤولية الإنسانية. هذا التعليق يعكس جوهر الرواية كعالم ديستوبي يقوم على اللامساواة الممأسسة: «لكل واحد منا فأره الذي يعتبره أثمن شيء في العالم. ربما يراه الآخرون مجرد فأر حقير، لكنه بالنسبة لك أهم شيء في الوجود» (ص: 114) في هذا السياق، يتعمق البعد الرمزي للصراع الطبقي؛ الفأر هنا ليس مجرد كائن، بل استعارة للذات أو القيم الذاتية التي تفهم فقط ضمن سياق اجتماعي خاص. فالأشياء التي تعد ثمينة أو ذات معنى لدى أحد الطرفين، تختزل وتحقر لدى الطرف الآخر، ما يشير إلى انعدام التواصل الرمزي بين الطبقتين. إنه تأكيد ضمني على أن كل طبقة تعيش في منظومة دلالية خاصة بها، حيث لا يوجد مجال لفهم مشترك أو تقييم موحد للمعنى والقيمة.
البنى الصغرى
اللغة: يستخدم خطاب يوتوبيا لغة استعلائية ومتشظية، تعكس حالة الاغتراب الطبقي والثقافي التي يعيشها السارد ومن يمثلهم من الصفوة. تكثر في خطابهم المصطلحات الأجنبية والمفاهيم الاستهلاكية المستوردة، مثل: "الفودو" و"الليبيدافرو" و"الفلوجستين"، التي تستخدم بلا سياق حقيقي، بل كرموز لما بعد الحداثة أو لهاث خلف لذائذ سطحية لا ترتبط بجوهر الإنسان أو بيئته. هذه اللغة تكرس الإحساس بالفوقية من خلال الاستعراض الجسدي والرمزي، كما نرى في قول الراوي: «أتأكد من أن شعري حليق بطريقة هنود الموهيكان الشهيرة.. الصدر عار إلا من عدة قلائد عملاقة.. هناك جماجم وأيقونات من سحر الفودو.. لست عابد شيطان، لكن هذه الأشياء تبدو مثيرة على صدري..» (ص: 3)
وفي موضع آخر يقول: «كنت أعرف اسم الدواء الجديد لأن أبي يستورده.. (ليبيدافرو).. لهذا لا يتوب رجال يوتوبيا أبدا.. لا يشيخون ولا يهرمون... يملكون السطوة والنفوذ والمال، ولا يملكون الفتوة الطبيعية التي لا تصنعها العقاقير» (ص: 25) أما عن الفلوجستين، فهو أكثر تعبيرا عن انغماس اليوتوبيين في عالم اصطناعي من المخدرات واللذة، إذ يقول:
«هو سيد المخدرات.. هناك في يوتوبيا تسيل أنهار الفلوجستين... إنهم يأكلونه ويشربونه... إنهم يعرقونه... صنابير الماء لا ينزل منها ماء، بل فلوجستين... يغسلون أقدامهم في الفلوجستين... يسقون كلابهم فلوجستين..» (ص: 38)
كل هذه العبارات تعكس تراكب المصطلحات الغريبة مع الأفعال الحسية المفرغة من المعنى، بما يكشف عن اغتراب كامل عن الواقع وتعلق بهويات استهلاكية سطحية. تعكس هذه اللغة رغبة مستمرة في تزييف الواقع بلغة اصطناعية، تستخدم لإضفاء شرعية على تفوق زائف وتصبح اللغة هنا أداة لتكريس الفصل بين عالم يوتوبيا النظيف المصنوع، وعالم الأغيار الحقيقي الغارق في الألم.
بالمقابل، يتسم خطاب الأغيار، لا سيما في صوت جابر، بلغة ترابية واقعية، تتكئ على ألفاظ الحياة اليومية وتجارب البقاء والخوف. فحين يصف جابر حيه، يقول: «وسط برك الماء الآسن، وبقع الكيروسين، وسط جثث الكلاب، وصبية يلعبون القمار..» (ص: 104) ويظهر الطابع الأخلاقي المقاوم في خطابه كذلك، كما في قوله وسط مجموعة من اللصوص: «اسمعوا.. هذه الفتاة جائعة.. أكثر جوعا منا.. كلكم سرق یوما بسبب الجوع.. لقد أخذتم ما لكم فاتركوها..». (ص: 73) وفي موضع آخر، يتحدث عن دوافعه الإنسانية في حماية أخته صفية: «أنا حي.. لن أموت وأترك (صفیة) تسرق.. لن أموت وأتركها للنساء یخمشن وجهها ویطلقن علیها نعوتا قذرة.. لن أموت وأتركها تجوع..» (ص: 48) حتى اللغة التي تستخدم في وصف العنف عند الأغيار تأتي بصيغة دفاعية أخلاقية، كما في هذا المقطع: «قالت لي إنه مفترس.. إنه یغار علیها.. إنه یحمل مطواة قرن غزال یمكنه أن یرشقها في زجاج نظارتي» (ص: 43)
وهنا تتجلى اللغة كأداة مقاومة: تقر بالوضع القاسي لكنها لا تفقد اعترافها بالإنسانية. وبهذا التقابل، يظهر الفارق بين خطاب يوتوبيا وخطاب الأغيار: الأول مفرط في الاصطناعية، مهووس بالمتعة، مشبع بالغربة عن المحيط؛ والثاني مشبع بحس واقعي مؤلم، لكنه أكثر صدقا ووضوحا، وأكثر ارتباطا بالحقيقة المادية للحياة.
المعجم: في رواية يوتوبيا، تلعب الحقول الدلالية دورا حاسما في كشف البنى الأيديولوجية العميقة التي تحكم عالم الرواية وتوجه العلاقات بين الطبقات. فالمفردات المستخدمة في خطاب سكان يوتوبيا تعكس عالما مغلقا على ذاته، يقوم على التفوق، الامتلاك، والإقصاء العنيف للآخر. تتكرر كلمات مثل "الأغيار"، "الصيد"، "التذكار"، "الخراب"، و"المول"، وهي جميعا مصطلحات تنتمي إلى حقل دلالي يربط بين العنف والترف والمتعة النخبوية. فعلى سبيل المثال، مصطلح "الصيد" لا يستخدم هنا بمعناه الطبيعي (صيد الحيوانات) بل للإشارة إلى ممارسة وحشية يمارسها شباب يوتوبيا الذين يتسللون إلى مناطق الأغيار لقتلهم، في عملية ينظر إليها كلعبة ترفيهية أو إثارة، أشبه برحلات سفاري بشرية. أما كلمة "تذكار"، فتتخذ دلالة مرعبة ومجردة من الإنسانية؛ إذ لا تشير إلى ذكرى عاطفية أو رمزية، بل إلى أعضاء بشرية (كالعظام أو الأصابع) تنتزع من أجساد الضحايا وتحتفظ بها بوصفها غنائم. هذه المفردات تعكس انحدارا أخلاقيا يصل إلى حد التشييء الكامل للآخر، وتجعل من العنف وسيلة للمتعة لا مجرد ضرورة أو اضطرار. كذلك، فإن تكرار كلمة "المول" في وصف الحياة داخل يوتوبيا يشير إلى هيمنة نمط استهلاكي فارغ، حيث تختزل الحياة في التسوق والمتعة الجسدية، بعيدا عن أي التزام أخلاقي أو اجتماعي.
في المقابل، يحمل خطاب جابر، ممثل الأغيار، حقولا دلالية مختلفة تماما تعكس أولويات البقاء والكرامة الإنسانية. تتكرر في حديثه كلمات مثل "العيش"، "الستر"، و"الشرف"، وهي مفردات تنتمي إلى عالم يسعى إلى الحد الأدنى من الأمان المادي والمعنوي. فـ"العيش" لا يعني الترف، بل الخبز الضروري للبقاء، و"الستر" يفهم بوصفه حماية للذات والبيت من الانكشاف أمام قسوة الحياة، أما "الشرف" فهو القيمة الوحيدة المتبقية في عالم متهالك، يتمسك بها كخط دفاع أخير ضد الانهيار الأخلاقي والاجتماعي.
هذا التباين في الحقول الدلالية لا يعكس فقط اختلافا في اللغة أو الثقافة، بل يمثل صراعا وجوديا بين عالمين: عالم يعتبر الآخر متعة وعرضا ترفيهيا قابلا للاستغلال والتدمير، وعالم يحاول الاحتفاظ بإنسانيته وسط الفقر والذل. وبهذا المعنى، يصبح اختيار الكلمات في الرواية أداة استراتيجية تظهر كيف أن اللغة ليست محايدة، بل محملة بالأيديولوجيا، وتستخدم لتكريس السيطرة من جهة، وللصمود والمقاومة الرمزية من جهة أخرى.
الضمائر: تشكل الضمائر، ولا سيما ثنائية "نحن/أنتم"، عنصرا بنيويا محوريا في الخطاب السردي لرواية يوتوبيا، وتستخدم لتكريس الانقسام الرمزي والوجداني بين الطبقتين المتصارعتين. هذه الثنائية لا تعكس فقط اختلافا لغويا، بل تترجم رؤيتين متناقضتين للعالم، تسهم كل منهما في تثبيت موقع المتكلم داخل منظومة الصراع الطبقي؛ في السرد اليوتوبي، يوظف ضمير "نحن" بأسلوب فرداني نرجسي، يشير إلى جماعة مترفة تعلي من شأن ذاتها وتقصي الآخر بوصفه أدنى. يتجلى هذا في قول السارد: «عندما كان آباؤنا يقتنصون الفرص، كان آباؤكم يقفون أمام طوابير الرواتب في المصالح الحكومية.. أنتم لم تفهموا اللعبة مبكرا؛ لهذا هويتم من أعلى إلى حيث لا يوجد قاع.. ما ذنبنا نحن؟ أنتم أقل منا في كل شيء.. هذه سنة الحياة..» (ص: 101) هنا يتحول "نحن" إلى ضمير للتميز والتفوق الطبقي، ويستخدم لتبرير الوضع القائم عبر خطاب يدعي المنطق والطبيعية (هذه سنة الحياة)، مع تحميل الطرف الآخر (الأغيار) مسؤولية انحدارهم. لا يظهر "أنتم" كوصم خارجي فقط، بل كدعامة أيديولوجية تبني حدودا صلبة بين الطبقتين وتضفي شرعية على الامتياز الطبقي.
في المقابل، يوظف "نحن" في خطاب جابر بدلالة مختلفة تماما، تشير إلى الانتماء الجماعي والمعاناة المشتركة. يقول جابر: «نحن الفقراء لم نكف عن اعتبار إسرائيل عدوا.. بينما هوينا نحن إلى الحضيض.. لو ابتاع كل منا زيتونة فلسوف يصير بائع الزيتون مليونيرا..» (ص: 63) في هذا السياق، لا تعبر "نحن" عن امتياز بل عن تهميش؛ الضمير هنا يستحضر لتوحيد صوت الأغيار، ورسم صورة جماعية لمعاناتهم اليومية وفشلهم في النهوض الاقتصادي والسياسي. كما يعكس توظيف "نحن" إدراكا جماعيا للمأزق التاريخي والاجتماعي، خلافا لاستخدامه في الخطاب اليوتوبي كأداة فصل وتفوق.
بهذا المعنى، لا تعد الضمائر في الرواية مجرد أدوات لغوية، بل مكونات أيديولوجية تعيد إنتاج التراتب الطبقي وتعزز منطق الانقسام؛ إذ تظهر كيف أن اللغة تستخدم لترسيخ مواقع القوة والضعف، الانتماء والإقصاء، والتبرير والإدانة، في عالم روائي يقوم على التفاوت الجذري والتنافر الرمزي.
النتيجة
رواية يوتوبيا ليست مجرد عمل خيالي مستقبلي، بل هي نص أيديولوجي مكثف، يشتبك مع أسئلة أخلاقية وسياسية واجتماعية معقدة، ويتحول إلى مرآة مكبرة لانقسام المجتمع المعاصر. إنها لا تقدم فقط تحذيرا مما يمكن أن يكون عليه المستقبل، بل تكشف عن واقع كامن في الحاضر، يزداد فيه الانفصال بين الطبقات، ويتفاقم فيه التشييء، ويتراجع فيه الحس الإنساني لصالح ثقافة استهلاكية عبثية.
وقد أتاحت نظرية فان دايك، من خلال مثلث الخطاب والمعرفة والمجتمع، أداة فعالة لتحليل الديناميات النصية التي تمأسس التحيز الطبقي داخل الرواية. فالخطاب في يوتوبيا ليس بريئا، بل موجه إيديولوجيا لتكريس تصور نرجسي عن الذات اليوتوبية، مقابل تقديم نمط نمطي سلبي للآخر المقموع. وتظهر البنية السردية، على المستوى البنيوي واللغوي، كيف يتم إنتاج هذه التمثيلات وتدويرها داخل الرواية، عبر المفردات، والضمائر، وتوزيع الأصوات.
كذلك فإن تطبيق المربع الأيديولوجي على الرواية كشف عن استراتيجيات تقديم الذات الإيجابي والتقديم السلبي للآخر، حيث يتم تأكيد تفوق اليوتوبيين وتحضرهم، مقابل حيوانية الأغيار وهمجيتهم. غير أن المربع الأيديولوجي المضاد، لا سيما من منظور جابر، يمنحنا قراءة معاكسة تعيد الاعتبار للأغيار كذوات لها معرفة، وقدرة، وكرامة. فشخصية جابر ليست فقط رمزا للمقاومة الفردية، بل هي أيضا تمثيل صوتي لهامش ينطق بالحقيقة وسط صخب الزيف.
هذا التحليل يثبت كيف يمكن للنص الأدبي أن يتحول إلى ساحة صراع خطابية تشهد مواجهة بين رؤيتين للعالم: واحدة تنكر إنسانية الآخر وتسعى إلى تشييئه، عبر خطاب متعال استعلائي، وأخرى تقاوم من الهامش وتحاول استعادة ما بقي من كرامة الإنسان، وتفضح تناقضات اليوتوبيا المزعومة. ومن هنا، فإن رواية يوتوبيا لا تقرأ بوصفها سردية خيال علمي فقط، بل كوثيقة نقدية تفضح آليات القمع والتهميش، وتتيح لنا، عبر أدوات تحليل الخطاب، أن نعيد التفكير في علاقتنا بالآخر، والسلطة، والمعرفة، والمجتمع.
المصادر والمراجع
أعرضي، رشيد. (2025). تحليل الخطاب الشعري قراءة اتساقية لقصيدة أبي العباس الجراوي (609هـ) في وصف معركة الأرك. الأردن: مركز الكتاب الأكاديمي.
بن غالي، ناصر بن عبدالله. (2024). نحو لسانيات عربية اجتماعية من النظرية إلى التطبيق، الرياض: مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية.
توفيق، احمد خالد. (2014). يوتوبيا. ط1. القاهرة: دار الشروق.
الزناتي، سمر خلف الله. (2024). ترامب وبايدن؛ تحليل الخطاب الصحفي، مصر:دار العربي للنشر والتوزيع.
سامح، شريف. (2017). الشعارات السياسية: دراسة نظرية وتطبيقية. مصر: العربي للنشر والتوزيع.
الساوي، عبدالحفيظ. (2013). الخطاب السياسي للرئيس محمد مرسي: دراسة تحليلية. إسطنبول: دار أصالة للنشر.
الشويرخ، صالح بن ناصر. (2023). منهجيات البحث في اللسانيات التطبيقية. الرياض: مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية.
الشويرخ، صالح ناصر. (2025). قضايا معاصرة في اللسانيات التطبيقية. الرياض: مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية.
العربي، ربيعة. (2019). الخطاب: المحددات واليات الأشغال. الأردن: دار أمجد للنشر والتوزيع.
العلي، بلال موسى. (2022). لعبة الحقل الرقمي: صراعات السلطة والهيمنة والتمايز في حقل التواصل الاجتماعي: توسيع إطار النظرية البورديوية. الإمارات العربية المتحده: Austin Macauley Publishers
فان دايك، تئون. (2023). الأيديولوجيا والخطاب: مقدمة متعددة التخصصات. ترجمة: سعيد بكار؛ لحسن بوتكلاي. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
محمد، سالي عاطف فتح الله. (2023). إعلام الحرب بين الحقيقة والتضليل: حرب اكتوبر. مصر: دار العربي للنشر والتوزيع.
الإنجليزية:
Jawad, F. A.-M. (2023). A Proposed Objective Version of the Ideological Square Theory in Critical Discourse Analysis. مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، 15(61), 1059-1074.